#حين #يولد #العطاء #من #رحم #الحرمان
بقلم : علي الزبيدي
لطالما ترددت على ألسنتنا مقولات اتخذت صفة”المُسلّمات” التي لا تقبل الجدل، ولعلّ أشهرها وأكثرها رسوخًا في الوعي الجمعي هي: “فاقد الشيء لا يعطيه”، تبدو هذه القاعدة للوهلة الأولى منطقية وحتمية؛ فكيف لشخص أُفرغت يداه من غنى، أو قلبه من عاطفة، أن يمنح ما لا يملك؟
غير أن الحياة، بما تحمله من قصص إنسانية وتجارب عميقة، كثيرًا ما تقف شاهدًا على خطأ هذا الافتراض المطلق.
إنها تُبرهن على أن فاقد الشيء قد يعطيه، بل قد يكون هو الأجدر والأكثر سخاءً في العطاء، وكأنّ الحرمان ذاته يتحول إلى دافع لا يُقاوَم لملء الفراغ لدى الآخرين، كي لا يتجرعوا مرارة الفقد التي اكتوى بها.
إنّ تجربة الفقد، سواء كانت مادية كالحرمان من المال، أو معنوية كفقدان الحنان، تخلق داخل الإنسان حالة من الوعي المؤلم، يصبح معها أكثر إدراكًا وشفافية لاحتياج غيره، فمن عاش يتيمًا وفقد عطف الأب، غالبًا ما نجده أبًا حنونًا يغدق على أبنائه من الودّ ما لم يجده ، ففقده جعله بحوّل تجربته القاسية إلى وقود للعطاء المضاعف؛ إنه يعطي لا لأنه يمتلك المخزون، بل لأنه يدرك فداحة النقص، وكم من أثرياء وأغنياء ورجال أعمالٍ وُلدوا في بيئات فقيرة، فصاروا أكثر الناس حرصًا على إعطاء المحتاجين ومساعدة الفقراء، وهم لم يعطوا من “شيء” ورثوه، بل أعطوا من رحم تجربتهم التي علّمتهم قيمة هذا “الشيء” ومدى تأثيره في حياة الإنسان، فهم يعطون برغبة جامحة في محاربة شبح الحرمان الذي طاردهم ذات يوم.
نحن للأسف نرتكب خطأً فادحًا حينما نجعل من المقولات قوانين صارمة تُقيّد الإرادة البشرية، فالعطاء ليس مجرد عملية “نقل” لشيء موجود، بقدر ما هو عملية “خلق” لهذا الشيء من وعي الألم والحاجة، فالشخص الذي ذاق طعم الافتقار إلى قيمة ما، يكون مؤهلاً أكثر لمنحها بسخاء؛ لأنه يمنح من قلبه وعبر ذاكرته الملأى بمرارة الحرمان، ولذا، يجب علينا أن نفهم المقولة القديمة في سياقها المادي الضيق، أما في نطاق المشاعر والقيم، فالإرادة البشرية قادرة على التحدي، فليست الحياة صفرًا وواحدًا ، والفقد ليس نهاية المطاف، بل قد يكون نقطة الانطلاق، ولتكن قناعتنا: فاقد الشيء قد يعطيه بفيض، لأنه يمنح من رحم التجربة، محولاً الجرح إلى منبع لا ينضب من العطاء.
ختاماً ..
يجب أن ندرك أنّ المقولات والحكم والأمثال قد نشأت في سياقات معينة وظروف متباينة، وقد أثبت الواقع المعاصر خطأ بعضها ومرونة بعضها وقابلية بعضها للتغيير، ولذلك يجب علينا أن لا نعمم، لأنّ التعميم لغة الجهلاء، ولا أنّ نصدر الأحكام المسبقة قبل التجربة .