منوعات

بين عشق الجمهور وتقديس غير واعٍ#بين #عشق #الجمهور #وتقديس #غير #واع

43views
Trip.com WW

#بين #عشق #الجمهور #وتقديس #غير #واع

عندما قامت ثورة تموز/ يوليو كان في مصر ثلاثة مطربين كبار: أم كلثوم وعبد الوهاب وليلى مراد، وثمة من دعا إلى منعهم من الغناء باعتبارهم يمثلون “العهد البائد”. بل إن ليلى اتهمت في ولائها بسبب جذورها اليهودية، ما أثّر في نفسيتها ودفعها إلى كتابة رسالة مؤثرة تدافع فيها عن نفسها، وفي الأخير اعتزلت في عز شبابها وعطائها. ويُقال إن ملك السعودية عبد العزيز آل سعود توسط لدى ضباط تموز من أجل أم كلثوم وعبد الوهاب، ورأى عبد الناصر أن العداء لهما ليس في مصلحة الثورة الوليدة.   كما كان عبد الوهاب وأم كلثوم ذكيين بما يكفي لإظهار الولاء للعهد الجديد، مع ذلك ظل الحلم قائماً بأن يكون للثورة مطربها وشاعرها وكاتبها. من بين كل الشعراء كان الشاعر الشاب صلاح جاهين الأكثر حماسة، ومن بين كل الروائيين الكبار بدا يوسف السباعي ـ وهو أيضاً ضابط ـ الأكثر تعبيراً عنها، ومن بين مطربين شباب أصحاب أصوات عذبة مثل كارم محمود ومحمد قنديل ومحمد رشدي، وقع الاختيار على عبد الحليم حافظ.   عبد الحليم الذي أخفق في أول حفل له في الإسكندرية حيث عنّفه الجمهور وطالب بنزوله عن خشبة المسرح لأنه لا يؤدي بطريقة عبد الوهاب، لم يكن اختياراً شعبياً عفوياً بقدر ما كان اختياراً رسمياً لسلطة جديدة أصحابها شباب وأرادوا شاباً ينتمي إليهم. كانت لحظة قدرية أن يظهر عبد الحليم على المسرح الغنائي في لحظة ظهور عبد الناصر ورفاقه على المسرح السياسي، وظل العندليب مخلصاً لجمال يغني له بالاسم ويشارك بانتظام في حفلات عيد الثورة السنوية، ويحظى بحماية وحصانة فيغني ضد العدوان الثلاثي وللسد العالي وحتى يستنهض الهمم بعد النكسة، في عشرات الأغاني الوطنية وإن ذهب معظمها طي النسيان.ولأن ثورة تموز/ يوليو ـ بغض النظر عن التفاصيل والمآلات ـ عبرت عن أحلام جمهورية وليدة ونددت بالإقطاع والملكية ونادت بالعدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء وتبنت أحلاماً قومية مصرية وعروبية، أصبح حليم هو الناطق الغنائي لكل هذا مثلما كان شاعر القبيلة قديماً هو الناطق الرسمي لها. ما فتح المجال لأسطورته ـ مع تصديق الناس الأحلام والوعود ـ كي تتمدد مصرياً وعربياً في زهو الأمجاد القومية “الغنائية” التي يسمعها الناس في المذياع وإن لم يروها في الواقع. إن “أيقنة” عبد الحليم صُنعت رسمياً بالدرجة الأولى وإن لم تُفرض على الناس بجفاء وغلظة، حتى أفلامه السينمائية وحضوره العام كانت تمثل روح الثورة وأفكارها قبل انكسارها وبعدها.   بطريقة ما كان مطرب الشعب والثوار وليس مطرب “الملوك والأمراء” مثل أستاذه وراعيه الأول الموسيقار محمد عبد الوهاب.   عبد الحليم على شرفة منزله. (أرشيفية)   وبينما كان عبد الوهاب يتباهى بعلاقته الوطيدة بأمير الشعراء أحمد شوقي سليل البكوات وربيب العائلة الخديوية، ويخفي أصوله الشعبية وولادته في حي باب الشعرية الشعبي، أتى العندليب بأسطورة معاكسة تماماً، تتحدث عن طفل يتيم تربى في الملاجئ ويعاني تبعات إصابته بالبلهارسيا وترعاه أخته الكبرى.   كان يملك قصة وطفولة شعبية تجعلانه قريباً من عامة الناس، يعطيهم الأمل في مواهبهم مهما كان فقرهم، ومعظم أفلامه لم تخرج عن تلك الثيمة، المطرب العاطفي الموهوب الفقير الذي من حقه أن يصعد اجتماعياً بفضل موهبته ويتزوج الحسناء الجميلة الثرية، سواء أكانت صباح أم شادية أم مريم فخر الدين.   كان جزءاً معبراً عن الجمهور الواسع البسيط والمهمش. وبدا يتمه منسجماً مع أبوة عبد الناصر الرمزية والسياسية. هذا اليتم لم ينته حال أصبح نجماً مشهوراً، بل ظل يتردد في شجنه وموسيقاه وطريقة أدائه الواهنة التي تعتمد الإحساس والحساسية أكثر من القوة والتطريب.   ولأنه لم يتزوج ولم ينجب فهذا يعني أنه استمر يتيماً، ابناً للجميع، لكل الآباء والأمهات، مثلما استمر حبيباً لكل الفتيات اللواتي تعلمن الحب من كلمات أغانيه.   كل فتاة مجروحة وجدت المواساة في صوته وآهاته، وكل حبيبة اعتبرته حبيبها الرمزي كأنه يخصها وحدها. ثم اكتمل حضوره الأسطوري بمحنة المرض ورؤية الناس صور الأدوية والمستشفيات ورحلات العلاج وذبول الجسد ليتضاعف التعاطف معه وتتعمق محبته، ولأن الأسطورة لا تكتمل إلا بغياب الجسد، جاء رحيله شاباً في الثامنة والأربعين حدثاً مزلزلاً يعلن نهاية الأحلام القومية والوعود والآمال، ونهاية قصص الحب المتخيلة، ونهاية عصر كامل بموسيقاه وشعره ومعانيه.   كانت النهاية مفجعة عبرت عن نفسها في جنازة أسطورية ودموع وانهيار آلاف المعجبات وحالات انتحار لفتيات ربما لم تحدث لأي فنان آخر غير العندليب. ومن يذهب إلى شقته في حي الزمالك الراقي يجد الدرج والجدران وباب المصعد مطرزة بآلاف التعليقات لمحبي العندليب من العالم العربي كله.أجيال لم تعاصر أسطورته لكنها وقعت في فتنتها، ورأت فيه الحب المفقود والمحرم وأدق المشاعر في واقع قاس لا يرحم.   ربما سقط وتراجع جناح عبد الحليم المرتبط بالأحلام القومية والسياسية، لكن جناح الحب وأغانيه العاطفية تضاعف الحنين إليه. نال عبد الحليم حباً رسمياً وشعبياً جارفاً، فظهر مطربون يقلدون صوته وموسيقاه، وينسبون أنفسهم إليه مثل عماد عبد الحليم، صدرت عنه عشرات البرامج والوثائقيات، ورغم مرور قرابة نصف قرن على رحيله، تحول الافتتان به إلى ما يشبه عبادة لا واعية، إدماناً على أغانيه وحضوره وصوره وزيارة الآلاف لشقته ورؤية ملابسه وأشيائه وغرفة نومه. حالة من الإعجاب تصل أحياناً إلى حد الهوس والإدمان وتتبع كل تفصيلة تتعلق به. وتتجلى تلك العبادة والتقديس إما عبر التماهي مع أغانيه وسيرته أو وضعه في مكانة تفوق البشر العاديين.  

Trip.com WW

Trip.com WW

Leave a Response