#تحسين #وسائل #التواصل #الاجتماعي #يحيى #زكي
يطالب البعض بين الحين والآخر بإصلاح مواقع التواصل الاجتماعي، وأن تتخلص من المحتوى الهابط أو التافه الذي ينتشر هنا وهناك، ويبدو أن هذه المطالبات حالمة وتخضع لرؤية ميزت دوماً حقل الإعلام لعقود طويلة، رؤية تميز بين الشكل والمضمون أو بين الرسالة والوسيلة، ولا تدرك أنهما الشيء نفسه.لسنوات طويلة اعتقد معظم دارسي الإعلام أن هناك فصلاً واضحاً بين المحتوى والأداة التي يصل بها إلى الجمهور، بمعنى أننا نستطيع تضمين أي وسيلة إعلامية أو جماهيرية الرسالة التي نريدها، بغض النظر عن طبيعة الوسيلة وآليات عملها، ولكن هذه الرؤية ثبت خطؤها مع الزمن، وربما يكون العكس هو الصحيح، فالوسيلة هي التي تحدد محتواها، صحيح ربما ننقل رواية إلى شاشة السينما، ولكن تبقى فنيات الرواية من لغة وأفكار وحوار ذاتي للأبطال.. وغيرها من مفردات متعلقة بالشكل الروائي المقروء فقط، أي لا يمكن التعبير عن الرواية كوسيلة اتصالية وفنية عبر وسيلة أخرى، أما ما شاهدناه على الشاشة فمجرد تقليد بصري لمشهديات الرواية، لا يعبر عن روح النص المكتوب.النموذج السابق ينطبق على مختلف الوسائل الأخرى، ولنأخذ هنا القراءة كإحدى أقدم وسيلة تواصل بين البشر ومختلف الثقافات، لقد تم نقل المادة المقروءة حديثاً إلى كتب مسموعة وعُرضت في مواد مرئية، ولكن الرسالة في الحالتين: المسموعة والمرئية، كانت مختلفة تماماً، فتفاعل العين مع الكلمات المكتوبة أمامها وانتقالها لتؤثر لاحقاً في العقل عملية معقدة وطويلة لا تتكرر في حالة السمع أو التعرض لصور مرئية، لذلك قيل إن القراءة كانت وستظل أداة التثقيف الأولى.عندما ننظر إلى مواقع التواصل الاجتماعي أو «السوشيال ميديا» نلاحظ أن طبيعتها كوسيلة لا يمكن أن تحتمل رسالة جادة، سواء على مستوى المقروء: عدد الكلمات المحددة، أو المرئي: التسارع اللحظي للصور والفيديوهات، صحيح أننا ربما نقرأ هنا جملة لكاتب أو فيلسوف تجعلنا نتوقف ونتأمل ونستمتع، أو نشاهد مقطعاً مصوراً مفيداً، أو نعثر على معلومة جيدة في شكل إحصائيات أو أرقام، ولكن تبقى هذه الحالات مجرد استثناء، أما القاعدة فهي الخفة والسطحية والتفاهة، وكلها سمات تفرضها آليات وتقنيات عدة، منها المعالجة السريعة جداً للمادة المنشورة، وطبيعة التلقي اللحظي لمتصفح تلك المواقع، والتشتيت الذهني الذي يعانيه ذلك المتلقي بسبب تعدد الموضوعات المتلاحقة وعدم ترابطها، فضلاً عن غياب الحرفية، وربما الهدف، عند صانع المحتوى في تلك المواقع، وحتى عندما تتحول مسألة إلى «ترند» فإنها لا تبقى أكثر من يوم.هناك أيضاً فكرة خاطئة تهيمن على المفكرين والمنظرين، مؤداها أن أي وسيلة تواصل جماهيرية لابد أن تسهم في تثقيف الجمهور وبناء وعيه، وهي فكرة تقليدية بدورها تعود إلى زمن الإعلام الموجه، فكرة تتجاهل أننا الآن نعيش عصر الإعلام الصاعد من الأسفل، وهو يختلف كلياً عن نظيره الموجه.في النهاية لا يمكن «إصلاح السوشيال ميديا»، ومن لا يستطيع التكيف مع قوانينها وشروطها، فليس عليه أكثر من الابتعاد عنها.
