#القيادة #التربوية #وعي #يصنع #المستقبل
بقلم: حسن المباركي
————————————-
الكلّ يُجيد انتقاء الألفاظ، ويحسن صاغة المعاني ، غير أنّ التميّز لا يُقاس بحسن القول فحسب؛
فنحن في زمنٍ تتسارعُ فيه الخطى، وتتبدّلُ فيه المفاهيم، وتتنافسُ فيه العقولُ في ميدان التجديد، فتغدو القيادة التربوية منارةً تهدي الطريق، وتعيدُ للمؤسسات التعليمية جوهرَها الأصيل.
إنها روح الرؤية التي تبعثُ الحياة في مسيرة التعليم، وتمنحُها الاتجاه والمعنى، وتثبتُ مهما عصفت التحديات؛ لأنها تستندُ إلى وعيٍ عميقٍ وقيمٍ راسخة، وتنطلقُ من إيمانٍ بأن التعليمَ ليس جدرانًا تُشيَّد، ولا مناهجَ تُدرَّس فحسب، بل هو بناءٌ للإنسان وصناعةٌ للعقل والوجدان.
وما أحوجنا اليوم إلى قادةٍ يملكون البصيرة قبل البصر، والقدوة قبل القول، والإيمان بالرسالة قبل البحث عن الإنجاز، في وقتٍ أصبح فيه الحفاظ على جوهر التعليم أشبه بصون شعلةٍتتناقلها الأيدي جيلاً بعد جيل.
في أحد الأيام، وبين أروقة الإدارات والمكاتب، كان يسير بهدوء، يحمل في قلبه يقينًا أن التغيير يبدأ من الداخل، خطواته متأنية، لكن أثرها يمتدّ كنسيمٍ يوقظ العقول قبل القلوب، لم يرفع صوته، ولم يتكئ على منصبه، ومع ذلك كان حضوره كافيًا، ليعيد ترتيب المشهد من حوله بصمتٍ وإتقان، حين يتحدث تصغي العيون قبل الآذان، وحين يغيب يستمر صدى رؤيته بالعمل في النفوس، كما تنمو البذرة في عمق الأرض بصبرٍ وهدوء، هذا هو القائد الذي لا تحدّه صفة رسمية، ولا تقيّده ألقاب، بل يقود بالبصيرة، ويُلهم الآخرين أن يسيروا نحو الأهداف بإيمانٍ ينبع من داخلهم.
إن هذا المشهد تجسيدٌ حيّ لجوهر القيادة التربوية، التي تتجلّى أهميتها اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، ونحن نشهد عصرًا تتسارع فيه المتغيرات، وتتداخل فيه المفاهيم، وتظل القيادة التربوية فنًّا راقيًا يجمع بين الفكر والإنسان، ويوازن بين النظام والقيمة، ويحوّل الحلم إلى فعل، والرؤية إلى واقعٍ ملموس.
ليست القيادة مجرد إدارةٍ للوقت أو الموارد، بل هي هندسةٌ للعقول، وصياغةٌ للوعي، وغرسٌ للثقة التي لا تُمنح بقرارٍ إداري، بل تُزرع بالموقف، وتُغذَّى بالقدوة، وتُسقى بالصدق والإلهام.
وقد أرست رؤية المملكة 2030 مفهوم القيادة الواعية، التي تتجاوز حدود المكتب، وتستشرف المستقبل قبل أن يطرق الأبواب، فتربط بين التخطيط الإستراتيجي، وتمكين المعلمين والمعلمات عمليًّا، وبين تنظيم العمل وإشعال الحماس في النفوس، وبين السياسات الرسمية وأثرها المباشر على كل عقلٍ يتلقى التعليم أو يقدمه.
فالقائد التربوي المستند إلى رؤيةٍ واضحة يصبح محركًا للتغيير، لا مجرد منفذٍ للأوامر، فهو يخلق بيئةً تعليمية تشجع الإبداع وتقدّر المبادرات، وتحوّل الأخطاء إلى دروس، والنجاحات الصغيرة إلى خطواتٍ ثابتة، نحو الإنجاز الكبير.
وهنا تتجلَّى قيمة القيادة التربوية، بوصفها الجسر الذي يربط بين الفكر والممارسة، وبين النظرية والواقع، وبين الطموح والإمكان.
إن القائد الذي يدرك أن كل قرارٍ يتخذه هو رسالةٌ تربوية، وكل كلمةٍ يقولها قد تصنع أثرًا في معلمٍ أو طالب، هو من يعي أن القيادة ليست تسييرًا للأمور فحسب، بل هي تشكيلٌ للوعي الجمعي نحو غايةٍ سامية.
فكل بيئةٍ تعليمية تزدهر بالثقة والانفتاح والاحترام المتبادل، إنما هي ثمرةُ قائدٍ آمن بأن أعظم ما يقدمه هو الإنسان نفسه، قبل أي إنجازٍ مادي أو رقمي.
ولعل الأهم أن القيادة التربوية اليوم ليست مجرد نظريةٍ تُدرَّس، بل نبضٌ يوميٌّ محسوس على أرض الواقع، تتجلّى في كل قرارٍ يُتخذ، وفي كل موقفٍ يُدار، وفي كل جسرٍ من الثقة يُبنى بين القائد وفريقه.
فالقائد المؤثر يراقب بعيونٍ حانية تطوِّر كل معلم، ويشجع الابتكار في طرق التدريس، ويمنح كل فردٍ الحرية ليأخذ المبادرة ويحلّ المشكلات، فتتحول المدرسة أو الإدارة إلى مختبرٍ حيٍّ للتميز والإبداع.
ومن خلال هذه النبضات اليومية، تتحقق أهداف الرؤية الوطنية، ليس في الخطط والوثائق فحسب، بل في النتائج الحيّة، وفي قدرات الإنسان على أن يكون جزءًا فعّالا من منظومة التغيير والبناء، حيث يلتقي الحلم بالعمل، والرؤية بالإبداع، والقرار بالموقف الملهم.
ومن هذا المنطلق، يتضح أن القيادة التربوية رسالةٌ متصلة بالأجيال، تصنع الإنسان قبل أن تصنع المدرسة، وتبني القيم قبل أن تبني النتائج، فتتبدّى الرؤية في كل قرارٍ صغير، وفي كل موقفٍ يُترجم إلى واقعٍ ملموس، وتتحقق النتائج التي يراها الجميع في تطوّر الأداء وارتقاء البيئة التعليمية، ونموّ الفكر والإبداع لدى المعلمين والطلاب معًا.
وهكذا، تبقى القيادة التربوية جوهر التحول الحقيقي في التعليم، فهي التي تمنح الرؤية نبضها، والخطط روحها، والمؤسسات معناها.
إنها وعدٌ مستمرّ بأن التغيير يبدأ من إنسانٍ يملك الإيمان والقدوة والرؤية، ويستطيع أن يصنع من كل تحدٍّ فرصة، ومن كل يومٍ درسًا جديدًا في فنّ القيادة والإنسانية، ليظل الأثر ممتدًا ما دامت الرسالة باقية، وما دامت القلوب تنبض بالعطاء.
ويبقى القائد التربوي الحقيقي هو من يثبت أن القيادة ليست منصبًا يُحتَكر، ولا سلطةً تُمارس، بل فنٌّ ووعيٌّ ومسؤولية، تتداخل فيه الرؤية مع العمل، والقدوة مع المبادرة، لتظل القيادة محفزًا مستمرًا للنمو، وركيزةً أساسية في صناعة مجتمعٍ مثقفٍ، قادرٍ على مواجهة تحديات المستقبل بكل اقتدار.
إنه البذرة التي تُنبت في النفوس عزمًا، وفي العقول وعيًا، وفي الميادين إنجازًا، فإن غاب صوته بقي أثره طريقًا يُهتدى به، فالقادة الحقيقيون لا يُقاسون بعدد قراراتهم، بل بعدد القلوب التي أضاءوها، والعقول التي أيقظوها، والأجيال التي نهضت على بصيرتهم، تلك هي القيادة التربوية، والوعي الذي لا يغيب، والأثر الذي لا يُمحى.
كيتا بوست Keta Post | كيتا بوست هو موقع إلكتروني إخباري شامل يقدم محتوى متنوعًا يغطي الأخبار، الخدمات، الرياضة، الثقافة، والتعليم. يهدف إلى توفير معلومات دقيقة وموثوقة للجمهور العربي، مع الالتزام بالمهنية والحيادية في نقل الأحداث.



